فصل: بَابُ تَزَوُّجِ الْكِتَابِيَّاتِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وَقَالَ الرَّبِيعُ عَنْ الشَّافِعِيِّ: (لَا خَيْرَ فِي ذَبَائِحِ نَصَارَى الْعَرَبِ مِنْ بَنِي تَغْلِبَ) قَالَ: (وَمَنْ دَانَ دِينَ أَهْلِ الْكِتَابِ قَبْلَ نُزُولِ الْقُرْآنِ وَخَالَفَ دِينَ أَهْلِ الْأَوْثَانِ قَبْلَ نُزُولِ الْقُرْآنِ فَهُوَ خَارِجٌ مِنْ أَهْلِ الْأَوْثَانِ وَتُقْبَلُ مِنْهُ الْجِزْيَةُ عَرَبِيًّا كَانَ أَوْ عَجَمِيًّا، وَمَنْ دَخَلَ عَلَيْهِ الْإِسْلَامُ وَلَمْ يَدِنْ بِدِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ فَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ إلَّا الْإِسْلَامُ أَوْ السَّيْفُ).
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَقَدْ رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ السَّلَفِ الْقَوْلُ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ الْعَرَبِ، لَمْ يُفَرِّقْ أَحَدٌ مِنْهُمْ فِيهِ بَيْنَ مَنْ دَانَ بِذَلِكَ قَبْلَ نُزُولِ الْقُرْآنِ أَوْ بَعْدَهُ، وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ اعْتَبَرَ فِيهِمْ مَا اعْتَبَرَهُ الشَّافِعِيُّ فِي ذَلِكَ، فَهُوَ مُنْفَرِدٌ بِهَذِهِ الْمَقَالَةِ خَارِجٌ بِهَا عَنْ أَقَاوِيلِ أَهْلِ الْعِلْمِ.
وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {لَا إكْرَاهَ فِي الدِّينِ} قَالَ: «كَانَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ الْأَنْصَارِ لَا يَعِيشُ لَهَا وَلَدٌ فَتَحْلِفُ لَئِنْ عَاشَ لَهَا وَلَدٌ لَتُهَوِّدَنَّهُ، فَلَمَّا أُجْلِيَتْ بَنُو النَّضِيرِ إذَا فِيهِمْ نَاسٌ مِنْ أَبْنَاءِ الْأَنْصَارِ فَقَالَتْ الْأَنْصَارُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَبْنَاؤُنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {لَا إكْرَاهَ فِي الدِّينِ}».
قَالَ سَعِيدٌ: فَمَنْ شَاءَ لَحِقَ بِهِمْ وَمَنْ شَاءَ دَخَلَ الْإِسْلَامَ فَلَمْ يُفَرِّقْ فِيمَا ذَكَرَ بَيْنَ مَنْ دَانَ بِالْيَهُودِيَّةِ قَبْلَ نُزُولِ الْقُرْآنِ وَبَعْدَهُ وَرَوَى عُبَادَةُ بْنُ نُسَيٍّ عَنْ غُضَيْفِ بْنِ الْحَارِثِ: أَنَّ عَامِلًا لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ كَتَبَ إلَيْهِ أَنَّ نَاسًا مِنْ السَّامِرَةِ يَقْرَءُونَ التَّوْرَاةَ وَيَسْبِتُونَ السَّبْتَ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِالْبَعْثِ، فَمَا تَرَى؟ فَكَتَبَ إلَيْهِ عُمَرُ: «إنَّهُمْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ».
وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ عَنْ عُبَيْدَةَ قَالَ: سَأَلْت عَلِيًّا عَنْ ذَبَائِحِ نَصَارَى الْعَرَبِ، فَقَالَ: (لَا تَحِلُّ ذَبَائِحُهُمْ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَتَعَلَّقُوا مِنْ دِينِهِمْ بِشَيْءٍ إلَّا بِشُرْبِ الْخَمْرِ).
وَرَوَى عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كُلُوا مِنْ ذَبَائِحِ بَنِي تَغْلِبَ وَتَزَوَّجُوا مِنْ نِسَائِهِمْ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فِي كِتَابِهِ: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} فَلَوْ لَمْ يَكُونُوا مِنْهُمْ إلَّا بِالْوِلَايَةِ كَانُوا مِنْهُمْ وَلَمْ يُفَرِّقْ أَحَدٌ مِنْ هَؤُلَاءِ بَيْنَ مَنْ دَانَ بِذَلِكَ قَبْلَ نُزُولِ الْقُرْآنِ وَبَعْدَهُ، فَهُوَ إجْمَاعٌ مِنْهُمْ.
وَيَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ هَذِهِ الْمَقَالَةِ مِنْ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ مَنْ دَانَ بِدِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ قَبْلَ نُزُولِ الْقُرْآنِ أَوْ بَعْدَهُ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ}، وَذَلِكَ إنَّمَا يَقَعُ عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ، فَأَخْبَرَ تَعَالَى بَعْدَ نُزُولِ الْقُرْآنِ أَنَّ مَنْ يَتَوَلَّاهُمْ مِنْ الْعَرَبِ فَهُوَ مِنْهُمْ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ كِتَابِيًّا؛ لِأَنَّهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ، وَأَنْ تَحِلَّ ذَبَائِحُهُمْ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ هُمْ بَنُو إسْرَائِيلَ الَّذِينَ يَنْتَحِلُونَ الْيَهُودِيَّةَ وَالنَّصْرَانِيَّة دُونَ مَنْ سِوَاهُمْ مِنْ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ الَّذِينَ دَانُوا بِدِينِهِمْ، وَلَمْ يُفَرِّقُوا فِي ذَلِكَ بَيْنَ مَنْ دَانَ بِذَلِكَ قَبْلَ نُزُولِ الْقُرْآنِ وَبَعْدَهُ، وَيَحْتَجُّونَ فِي ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ}، فَأَخْبَرَ أَنَّ الَّذِينَ آتَاهُمْ الْكِتَابَ هُمْ بَنُو إسْرَائِيلَ؛ وَبِحَدِيثِ عُبَيْدَةَ السَّلْمَانِيِّ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ: (لَا تَحِلُّ ذَبَائِحُ نَصَارَى الْعَرَبِ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَتَعَلَّقُوا مِنْ دِينِهِمْ بِشَيْءٍ إلَّا بِشُرْبِ الْخَمْر) أَمَّا الْآيَةُ فَلَا دَلَالَةَ فِيهَا عَلَى قَوْلِهِمْ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا أَخْبَرَ أَنَّهُ آتَى بَنِي إسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَلَمْ يَنْفِ بِذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مَنْ انْتَحَلَ دِينَهُمْ فِي حُكْمِهِمْ.
وَقَدْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تَحِلُّ ذَبَائِحُهُمْ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ}، فَلَوْ لَمْ يَكُونُوا مِنْهُمْ إلَّا بِالْوِلَايَةِ لَكَانُوا مِنْهُمْ وَقَوْلُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي ذَلِكَ وَحَظْرُ ذَبَائِحِ نَصَارَى الْعَرَبِ لَيْسَ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُمْ مِنْ غَيْرِ بَنِي إسْرَائِيلَ، لَكِنْ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُمْ غَيْرُ مُتَمَسِّكِينَ بِأَحْكَامِ تِلْكَ الشَّرِيعَةِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ: إنَّهُمْ لَا يَتَعَلَّقُونَ مِنْ دِينِهِمْ إلَّا بِشُرْبِ الْخَمْرِ، وَلَمْ يَقُلْ: لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ؛ فَقَوْلُ مَنْ قَالَ إنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ لَا يَكُونُونَ إلَّا مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ وَإِنْ دَانُوا بِدِينِهِمْ قَوْلٌ سَاقِطٌ مَرْدُودٌ.
وَرَوَى هِشَامُ بْنُ حَسَّانٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ عَنْ حُذَيْفَةَ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ: «أَتَيْنَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا عَدِيُّ بْنَ حَاتِمٍ أَسْلِمْ تَسْلَمْ فَقُلْت لَهُ: إنَّ لِي دِينًا، فَقَالَ: أَنَا أَعْلَمُ بِدِينِك مِنْك قُلْت: أَنْتَ أَعْلَمُ بِدِينِي مِنِّي؟ قَالَ: نَعَمْ أَلَسْت رَكُوسِيًّا؟ قَالَ: قُلْت بَلَى قَالَ: أَلَسْت تَرْأَسُ قَوْمَك؟ قَالَ: قُلْت: بَلَى قَالَ: أَلَسْت تَأْخُذُ الْمِرْبَاعَ؟ قَالَ: قُلْت: بَلَى قَالَ: فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَحِلُّ لَك فِي دِينِك قَالَ: فَكَأَنِّي رَأَيْت أَنَّ عَلَيَّ بِهَا غَضَاضَةً، وَكَأَنِّي تَوَاضَعْت بِهَا».
وَرَوَى عَبْدُ السَّلَامِ بْنُ حَرْبٍ عَنْ غُطَيْفِ بْنِ أَعْيَنَ عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ: «أَتَيْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي عُنُقِي صَلِيبٌ ذَهَبٌ فَقَالَ: أَلْقَ هَذَا الْوَثَنَ عَنْك ثُمَّ قَرَأَ: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} قَالَ: قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا كُنَّا نَعْبُدُهُمْ قَالَ: أَلَيْسَ كَانُوا يُحِلُّونَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَتُحِلُّونَهُ وَيُحَرِّمُونَ عَلَيْكُمْ مَا أَحَلَّ اللَّهُ فَتُحَرِّمُونَهُ؟ قَالَ: فَتِلْكَ عِبَادَتُهُمْ» وَفِي هَذَيْنِ الْخَبَرَيْنِ ضُرُوبٌ مِنْ الدَّلَالَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، أَحَدُهَا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَسَبَ إلَى مُتَّخِذِي الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ أَرْبَابًا وَهُمْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، وَلَمْ يَنْفِ ذَلِكَ عَنْهُ مِنْ حَيْثُ كَانَ عَرَبِيًّا، وَقَالَ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ: «أَلَسْت رَكُوسِيًّا» وَهُمْ صِنْفٌ مِنْ النَّصَارَى، فَلَمْ يُخْرِجْهُ عَنْهُمْ بِأَخْذِهِمْ الْمِرْبَاعَ، وَهُوَ رُبُعُ الْغَنِيمَةِ؛ وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ دِينِ النَّصَارَى؛ لِأَنَّ فِي دِينِهِمْ أَنَّ الْغَنَائِمَ لَا تَحِلُّ؛ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَرْكَ التَّمَسُّكِ بِمَا يَنْتَحِلُهُ الْمُنْتَحِلُونَ لِلْأَدْيَانِ لَا يُخْرِجُهُمْ مِنْ أَنْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ تِلْكَ الشَّرِيعَةِ وَذَلِكَ الدِّينِ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَرَبَ وَبَنِي إسْرَائِيلَ سَوَاءٌ فِيمَا يَنْتَحِلُونَ مِنْ دِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَأَنَّهُمْ غَيْرُ مُخْتَلِفِي الْأَحْكَامِ؛ وَلَمَّا لَمْ يَسْأَلْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمَّا انْتَحَلَهُ مِنْ دِينِ النَّصَارَى أَكَانَ قَبْلَ نُزُولِ الْقُرْآنِ أَوْ بَعْدَهُ وَنَسَبَهُ إلَى فِرْقَةٍ مِنْهُمْ مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ مَنْ انْتَحَلَ ذَلِكَ قَبْلَ نُزُولِ الْقُرْآنِ أَوْ بَعْدَهُ؛ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

.بَابُ تَزَوُّجِ الْكِتَابِيَّاتِ:

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ}.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: اُخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ بِالْمُحْصَنَاتِ هَهُنَا، فَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ وَالشَّعْبِيِّ وَإِبْرَاهِيمَ وَالسُّدِّيِّ: أَنَّهُمْ الْعَفَائِفُ.
وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى عِنْدَهُ ذَلِكَ، وَهُوَ مَا حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْوَاسِطِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ بْنُ الْيَمَانِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ عَنْ الصَّلْتِ بْنِ بَهْرَامَ عَنْ شَقِيقِ بْنِ سَلَمَةَ قَالَ: تَزَوَّجَ حُذَيْفَةُ بِيَهُودِيَّةٍ، فَكَتَبَ إلَيْهِ عُمَرُ أَنْ خَلِّ سَبِيلَهَا، فَكَتَبَ إلَيْهِ حُذَيْفَةُ: أَحَرَامٌ هِيَ؟ فَكَتَبَ إلَيْهِ عُمَرُ: لَا، وَلَكِنِّي أَخَافُ أَنْ تُوَاقِعُوا الْمُومِسَاتِ مِنْهُنَّ؛ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: يَعْنِي الْعَوَاهِرَ.
فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَعْنَى الْإِحْصَانِ عِنْدَهُ هاهنا كَانَ عَلَى الْعِفَّةِ.
وَقَالَ مُطَرِّفٌ عَنْ الشَّعْبِيِّ فِي قَوْلِهِ: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} قَالَ «إحْصَانُ الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّة أَنْ تَغْتَسِلَ مِنْ الْجَنَابَةِ وَأَنْ تُحْصِنَ فَرْجَهَا».
وَرَوَى ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} قَالَ: (الْحَرَائِرُ) قَالَ أَبُو بَكْرٍ: الِاخْتِلَافُ فِي نِكَاحِ الْكِتَابِيَّةِ عَلَى أَنْحَاءَ مُخْتَلِفَةٍ، مِنْهَا إبَاحَةُ نِكَاحِ الْحَرَائِرِ مِنْهُنَّ إذَا كُنَّ ذِمِّيَّاتٍ، فَهَذَا لَا خِلَافَ بَيْنَ السَّلَفِ وَفُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ فِيهِ إلَّا شَيْئًا يُرْوَى عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَرِهَهُ؛ حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ بْنِ الْيَمَانِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْن سَعِيدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى بَأْسًا بِطَعَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَيَكْرَهُ نِكَاحَ نِسَائِهِمْ.
قَالَ جَعْفَرُ: وَحَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ عَنْ اللَّيْثِ قَالَ: حَدَّثَنِي نَافِعُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ كَانَ إذَا سُئِلَ عَنْ نِكَاحِ الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّة قَالَ: (إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ الْمُشْرِكَاتِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَلَا أَعْلَمُ مِنْ الشِّرْكِ شَيْئًا أَعْظَمَ مِنْ أَنْ تَقُولَ رَبُّهَا عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَهُوَ عَبْدٌ مِنْ عَبِيدِ اللَّهِ).
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَحَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ مَعْبَدٍ عَنْ أَبِي الْمَلِيحِ عَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ قَالَ: قُلْت لِابْنِ عُمَرَ: إنَّا بِأَرْضٍ يُخَالِطُنَا فِيهَا أَهْلُ الْكِتَابِ، أَفَنَنْكِحُ نِسَاءَهُمْ وَنَأْكُلُ مِنْ طَعَامِهِمْ؟ قَالَ: فَقَرَأَ عَلَيَّ آيَةَ التَّحْلِيلِ وَآيَةَ التَّحْرِيمِ، قَالَ: قُلْت: إنِّي أَقْرَأُ مَا تَقْرَأُ أَفَنَنْكِحُ نِسَاءَهُمْ وَنَأْكُلُ طَعَامَهُمْ؟ قَالَ: فَأَعَادَ عَلَيَّ آيَةَ التَّحْلِيلِ وَآيَةَ التَّحْرِيمِ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَعْنِي بِآيَةِ التَّحْلِيلِ: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ}، وَبِآيَةِ التَّحْرِيمِ: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ}، فَلَمَّا رَأَى ابْنُ عُمَرَ الْآيَتَيْنِ فِي نِظَامِهِمَا تَقْتَضِي إحْدَاهُمَا التَّحْلِيلَ وَالْأُخْرَى التَّحْرِيمَ وَقَفَ فِيهِ وَلَمْ يَقْطَعْ بِإِبَاحَتِهِ.
وَاتَّفَقَ جَمَاعَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ عَلَى إبَاحَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ الذِّمِّيَّاتِ سِوَى ابْنِ عُمَرَ، وَجَعَلُوا قَوْلَهُ: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ} خَاصًّا فِي غَيْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ.
حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ بْنُ الْيَمَانِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ حَمَّادٍ قَالَ: سَأَلْت سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ عَنْ نِكَاحِ الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّة، قَالَ: لَا بَأْسَ، قَالَ: قُلْت: فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} قَالَ: أَهْلُ الْأَوْثَانِ وَالْمَجُوس.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ مَا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ.
وَرُوِيَ أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ تَزَوَّجَ نَائِلَةَ بِنْتَ الْفُرَافِصَةِ الْكَلْبِيَّةَ وَهِيَ نَصْرَانِيَّةٌ وَتَزَوَّجَهَا عَلَى نِسَائِهِ؛ وَرُوِيَ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ أَنَّهُ تَزَوَّجَ يَهُودِيَّةً مِنْ أَهْلِ الشَّامِ.
وَتُرْوَى إبَاحَةُ ذَلِكَ عَنْ عَامَّةِ التَّابِعِينَ؛ مِنْهُمْ الْحَسَنُ وَإِبْرَاهِيمُ وَالشَّعْبِيُّ فِي آخَرِينَ مِنْهُمْ.
وَلَا يَخْلُو قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ} مِنْ أَحَدِ مَعْنَيَيْنِ: إمَّا أَنْ يَكُونَ إطْلَاقُهُ مُقْتَضِيًا لِدُخُولِ الْكِتَابِيَّاتِ فِيهِ، أَوْ مَقْصُورًا عَلَى عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ غَيْرِ الْكِتَابِيَّاتِ.
فَإِنْ كَانَ إطْلَاقُ اللَّفْظِ يَتَنَاوَلُ الْجَمِيعَ، فَإِنَّ قَوْلَهُ: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} يَخُصُّهُ، وَيَكُونُ قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ} مُرَتَّبًا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مَتَى أَمْكَنَنَا اسْتِعْمَالُ الْآيَتَيْنِ عَلَى مَعْنَى تَرْتِيبِ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ وَجَبَ اسْتِعْمَالُهُمَا وَلَمْ يَجُزْ لَنَا نَسْخُ الْخَاصِّ بِالْعَامِّ إلَّا بِيَقِينٍ، وَإِنْ كَانَ قَوْلُهُ: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ} إنَّمَا يَتَنَاوَلُ إطْلَاقُهُ عَبَدَةَ الْأَوْثَانِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ؛ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} ثَابِتُ الْحُكْمِ؛ إذْ لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ مَا يُوجِبُ نَسْخَهُ.
فَإِنْ قِيلَ: قَوْله تَعَالَى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} إنَّمَا الْمُرَادُ بِهِ اللَّاتِي كُنَّ كِتَابِيَّاتٍ فَأَسْلَمْنَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي آيَةٍ أُخْرَى: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْهِمْ}، وقَوْله تَعَالَى: {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} وَالْمُرَادُ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فَأَسْلَمَ؛ كَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} الْمُرَادُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فَأَسْلَمَ.
قِيلَ لَهُ: هَذَا غَلَطٌ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ إطْلَاقَ لَفْظِ أَهْلِ الْكِتَابِ يَنْصَرِفُ إلَى الطَّائِفَتَيْنِ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى دُونَ الْمُسْلِمِينَ وَدُونَ سَائِرِ الْكُفَّارِ، وَلَا يُطْلَقُ أَحَدٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ كَمَا لَا يُطْلَقُ عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ يَهُودٌ أَوْ نَصَارَى، وَاَللَّهُ تَعَالَى حِينَ قَالَ: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ} فَإِنَّهُ لَمْ يُطْلِقْ الِاسْمَ عَلَيْهِمْ إلَّا مُقَيَّدًا بِذِكْرِ الْإِيمَانِ عَقِيبَهُ، وَكَذَلِكَ قَالَ: {مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ} فَذَكَرَ إيمَانَهُمْ بَعْدَ وَصْفِهِمْ أَنَّهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ؛ وَلَسْت وَاجِدًا فِي شَيْءٍ مِنْ الْقُرْآنِ إطْلَاقَ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ إلَّا وَهُوَ يُرِيدُ بِهِ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ قَدْ ذَكَرَ الْمُؤْمِنَاتِ فِي قَوْلِهِ: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الْمُؤْمِنَاتِ} فَانْتَظَمَ ذَلِكَ سَائِرَ الْمُؤْمِنَاتِ مِمَّنْ كُنَّ مُشْرِكَاتٍ أَوَكِتَابِيَّاتٍ فَأَسْلَمْنَ وَمِمَّنْ نَشَأَ مِنْهُنَّ عَلَى الْإِسْلَامِ، فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَعْطِفَ عَلَيْهِ مُؤْمِنَاتٍ كُنَّ كِتَابِيَّاتٍ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} عَلَى الْكِتَابِيَّاتِ اللَّاتِي لَمْ يُسْلِمْنَ.
وَأَيْضًا فَإِنْ سَاغَ التَّأْوِيلُ الَّذِي ادَّعَاهُ مَنْ خَالَفَ فِي ذَلِكَ، فَغَيْرُ جَائِزٍ لَنَا الِانْصِرَافُ عَنْ الظَّاهِرِ إلَى غَيْرِهِ إلَّا بِدَلَالَةٍ، وَلَيْسَ مَعَنَا دَلَالَةٌ تُوجِبُ صَرْفَهُ عَنْ الظَّاهِرِ.
وَأَيْضًا فَلَوْ حُمِلَ عَلَى ذَلِكَ لَزَالَتْ فَائِدَتُهُ؛ إذْ كَانَتْ مُؤْمِنَةً وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْآيَةِ ذِكْرُ الْمُومِنَاتِ.